حماية المستهلك.. كيف سَبقت الحضارة الإسلامية إلى حفظ حقوق المستهلكين؟ Reviewed by Momizat on . محمد شعبان أيوب 29/8/2020 "ويكتب المحتسبُ في دفاتره أسماء الخبّازين ومواضع حوانيتهم، فإن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم، ويأمرُهم بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسل ال محمد شعبان أيوب 29/8/2020 "ويكتب المحتسبُ في دفاتره أسماء الخبّازين ومواضع حوانيتهم، فإن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم، ويأمرُهم بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسل ال Rating: 0

حماية المستهلك.. كيف سَبقت الحضارة الإسلامية إلى حفظ حقوق المستهلكين؟

“ويكتب المحتسبُ في دفاتره أسماء الخبّازين ومواضع حوانيتهم، فإن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم، ويأمرُهم بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسل المعاجن ونظافتها، وما يُغطّى به الخُبزُ، وما يُحملُ عليه، ولا يعجِنُ العجّان بقدميه، ولا برُكبتيه، ولا بمرفقيه؛ لأن في ذلك مهانة للطعام، وربّما قطرَ في العجين شيء من عرَق إبطيه وبدنه، فلا يعجِن إلا وعليه مِلعبة أو بشَتٍّ مقطوع الأكمام ويكون مُلثّما”.

عبد الرحمن الشَّيزري “نهاية الرتبة الشريفة في طلب الحسبة الشريفة”.

أولَت الحضارة الإسلامية منذ فترة مبكرة من تاريخها الاهتمام بالحرف والصناعات والأسواق والتجارات، وكانت قريش مركزا من مراكز التجارة في الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نشأ في هذه البيئة التجارية، فعمل مع عمّه أبي طالب ثم مع خديجة -رضي الله عنها- يتّجر لها في مالها قبل زواجه منها، وحين هاجر من مكة إلى المدينة المنورة حرص الكثير من أصحابه مثل أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم على استمرار عملهم في المجالات التجارية، ولعل كلمة عبد الرحمن بن عوف “دلّوني على السوق” أضحت مثالا على هذه الروح التي حملها المهاجرون في أعماقهم وأنفسهم، ومثالا لمَن جاء بعدهم.

 

وقد كانت طبوغرافية المدينة الإسلامية منذ نشأتها الأولى في الكوفة والبصرة والفسطاط وبغداد والقيروان وغيرها تحرص على جعل المسجد الجامع في المركز أو مراكز المحلات والأحياء وبجوارها الأسواق بأنواعها كافة التي خُصِّصت للتجارة والصناعة والحرف والأعمال اليدوية وغيرها، ولم يكن والحال هذه من الاتساع إلا الاتكاء على النموذج النبوي والراشدي في مراقبة الأسواق وضمان جودة المنتجات وحماية المستهلكين من الغش والغرر والخداع وتحقيق مبدأ العدالة في البيع والشراء، منها الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من طريق ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يبيعُ بعضُكم على بيع بعض، ولا تُلقوا السِّلَع حتى يُهبطَ بها إلى السوق”[1]. وقد أفرد الإمام مسلم في صحيحه بابا أسماه “مَن غشّنا فليس مِنّا”.

 

فكيف حمت الحضارة الإسلامية أبناءها من الغش والخداع طوال تلك القرون؟ وهل جعلت لتلك المهمة وظيفة ثابتة مقدّرة؟ وهل تناول التراث الإسلامي هذا الجانب من جوانب الحياة اليومية الدقيقة بالتصنيف والتأليف أم لا؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.

 

لقد ظهرت وظيفة التفتيش على الأسواق والحرف والصُّناع والتُّجار منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده، من مبدأ أن الغش والغرر من الأمور التي تمقتها الشريعة، وثمة أبواب كاملة في فقه البيوع والمعاملات والتجارات وغيرها شرحها علماء الإسلام من المذاهب الأربعة شرحا وافيا دقيقا لم تسبق إليه حضارة من الحضارات في أنواع العقود والمعاملات، وشرائط صحتها ونفاذها وبطلانها وحلالها وحرامها وغير ذلك.

اعلان

 

وكانت وظيفة مراقبة هذه الأسواق والمعاملات اليومية في المصانع والمعامل يقوم بها المحتسب، وكان معنى الاحتساب أولا ينصرف إلى طلب الثواب الأخروي مثل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَن صامَ إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنبه”، أو إلى إنكار القبيح من الأفعال، لكن أصبح الاحتساب بمرور الوقت جزءا من النظام الإداري في الإسلام، على حسابات الدولة والمواريث ومراقبة الموازين والمكاييل والشرطة والآداب والأخلاق العام، فكانت نظاما للرقابة على سير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بطريقة تجعلها في إطار قواعد الشرع الإسلامي، وفي نطاق المصلحة العامة للمجتمع[2].

 

وأول مَن مارسَ هذه المهمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد أنكر على بائع الطعام أن يجعل ما أصابه المطر وسط الصبرة، كما نهى عن تلقّي الرُّكبان، أي البيع قبل الدخول إلى الأسواق لِمَا تتضمَّنه صورةُ هذه المعاملةِ من تغرير وخداع بالبائع من جهة، وإضرارٍ بأهل السوق أو أهل البلد من جهة أخرى، فكانت عِلَّةُ النهي حاصلة في أمرين وهما: إزالةُ الضرر عن الجالب وصيانتُه ممَّن يخدعه من جهة، وإزالةُ الضرر عن أهل السوق وتحقيقُ النفع لهم تقديما للمصالح العامَّةِ على المصالح الخاصَّة من جهة أخرى، فمُنِعَتْ مصلحةُ المتلقِّي الخاصَّةُ نظرا لتعارُضِها مع مصلحة أهل السوق العامَّة، مع ما فيه من إزالةِ الغَبْنِ والضرر عن الجالب ودفعِه عنه[3].

وعندما ظهرت مخالفات كثيرة أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج هذا الاعوجاج بصرامة وحكمة، فعيّن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على سوق المدينة، وسعيد بن العاص -رضي الله عنه- على سوق مكة، وعلى نهجه سار الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون وولاة الأمصار حتى أزمنتنا الحديثة هذه، مع فارق في التسميات والوظائف وبعض التحديث بحكم اختلاف العصور.

 

ومن هنا ظهرت وظيفة المحتسِب في المشرق، وصاحب السوق في المغرب والأندلس، ثم غلب عليهم اسم المحتسب مثل المشارقة، ولأن هذه الوظيفة كانت لصيقة الصلة بحياة الناس وأرواحهم ووعيهم وأذواقهم وأخلاقهم، وكانت تهدف إلى كفالة سعادتهم من أبواب الدين والدنيا، كما يذكر ابن عبدون في “رسالة في القضاء والحسبة”، كان لا بد من وجود سمات معينة يتحلى بها مَن يلي هذه الوظيفة؛ إذ ينبغي أن يكون فقيها نزيه النفس، عالي الهمة، ظاهر العدالة، معروفا بالأناة والحلم، يقظا، حاد الفهم، بحيث لا تُرتجى لشدة يقظته غفلته، ولا تُؤمَن على ذي منكَر سطوتُه، خبيرا بأحوال المجتمع وسياسة أفراده، لا يستفزّه مطمع، قويّ الشخصية بحيث لا يجرؤ أحد على الاستهانة به، وفي الوقت نفسه لا تأخُذُه في الله لومة لائم[4].

 

وإذا كان القائم بهذه الوظيفة يجب أن يكون فقيها عالما، فإنه من باب أولى كان مَن القُضاة أو أرباب السلك القضائي من درجاته المختلفة، وهو ما تؤكده المصادر التاريخية التي يُشير بعضها إلى أن خمارويه بن أحمد بن طولون والي مصر قد فوّض النظر في وظيفة المظالم والأوقاف والحسبة إلى القاضي محمد بن عبده بن حرب سنة 277هـ، وقد فوّض والي مصر الجديد مؤنس الخادم القاضي محمد بن جعفر القرطي على الحسبة سنة 302هـ[5].

 

والحق أن وجود المحتسب كان أمرا ضروريا أمام جشع التجار أو غلاء الأسعار أو غش المعروض أو انحلال الأخلاق، وكان التهاون في مثل هذه الوظائف من الأمور التي تُسبِّب اضطرابات اجتماعية وثورية في بعض الأوقات، ففي بغداد سنة 307هـ: “ضجّت العامة من الغلاء، وكسروا المنابر، وقطعوا الصلاة، وأحرقوا الجسور، وقصدوا دار الروم ونهبوها، فأنفذ الخليفة المقتدر بمَن قبض على عدّة منهم، واستدعى حامدا (قائد الشرطة) ليبيع الغلّات التي له ببغداد، فأصعد، وباعها، ونقَّص في كُل كُرّ (مكيال) خمسه دنانير. وركب إبراهيم بن بطحاء المحتسب إلى قطيعة (حيّ) أم جعفر، فسعَّروا الكُر الدقيق بخمسين دينارا، فرضي الناس وسكتوا وانحلَّ (انخفض) السعر”، كما يروي الطبري في تاريخه[6].

 

وقد أدرك العقلاء هذه الحقائق، وظهر لون جديد من ألوان التأليف في مسائل الحسبة والمحتسِب ومجالات عمله وشروطه والميادين اليومية التي يعمل فيها، مثل كتاب “نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحِسْبة الشريفة” لعبد الرحمن الشيزري (ت 590هـ)، وقد تناول فيه الشيزري التعريف بالحسبة والمحتسب وأصناف التجار والحرفيين والأسواق والمكاييل والنقد وما يجب على المحتسب عمله.

 

وقد رأينا في هذا الكتاب وعيا ميدانيا من الشيزري لمتطلبات ودقائق هذه الوظيفة، ففي الباب السادس الذي عقده في الحسبة على الخبّازين نراه يشترط في أفرانهم “أن تُرفعَ سقائف حوانيتهم، وتُفتحُ أبوابُها، ويُجعلُ في سُقوف الأفران منافِس واسعة يخرجُ منها الدخان، لئلا يتضرر بذلك الناس، وإذا فرغ الخبّاز من إحمائه مسح داخل التنّور بخرقة نظيفة، ثم شرع في الخُبز، ويكتب المحتسبُ في دفاتره أسماء الخبّازين ومواضع حوانيتهم، فإن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم، ويأمرُهم بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسل المعاجن ونظافتها، وما يُغطّى به الخُبزُ، وما يُحملُ عليه، ولا يعجِنُ العجّان بقدميه، ولا برُكبتيه، ولا بمرفقيه؛ لأن في ذلك مهانة للطعام، وربّما قطرَ في العجين شيء من عرَق إبطيه وبدنه، فلا يعجِن إلا وعليه مِلعبة أو بشَتٍّ مقطوع الأكمام ويكون مُلثّما لأنه ربما عطس أو تكلم فقطر شيء من بُصاقه أو مخاطه في العجين”[7].

 

ويستمر الشيزري في كتابة الشروط الواجب توافرها في الخبازين من الدّربة والمهارة والنظافة العامة والخاصة، وما يجب أن يحترموه من قواعد السلامة والنظافة أثناء عملهم، وضرورة أن يراقب المحتسب هذا النشاط ليلا ونهارا، وكما نرى فهذا الكتاب قد ألّفه الشيزري قبل تسعمئة عام من الآن، وهو واحد من أقدم النصوص التراثية والإنسانية التي تتناول مسألة حماية المستهلكين من عموم الناس وحقوقهم على التجار وأرباب المهن والصناعات بمختلف أنواعها.

 

وظل هذا اللون من التأليف حاضرا حتى العصور المتأخرة، فنجد عبد الرحمن الفاسي المغربي في رسالته “خِطة الحسبة” التي ألّفها في القرن السابع عشر الميلادي يقول: ونسيرُ مع المحتسب في مختلف مناطق عمله وأولها السوق الذي انطلقت منه هذه الوظيفة الدينية منذ بدايتها، وجرى فيه على مدى التاريخ أكثر نشاطاتها، ونحن الآن في وجهتنا إلى السوق بمعناه الواسع، وكما أصبح بعد اتساع العُمران وتحضُّر الأمصار أسواقا مختلفة باختلاف مقتضيات المعايش والمطالب في التجارة والصناعة، وجميع ما تحتاج إليه الحياة الاقتصادية، وسنرى أن نشاط المحتسب يتركز أساسا في السوق على قطع دابر التحايل في المعاملات، وعلى تأمين سلامة المعروضات من مآكل ومشارب وملابس وآنية ومتاع.

 

بل إن مهمة المحتسب تتعدى ذلك إلى مراقبة صحة النقود المتعامل بها، وعلى العمل في دار الضرب، أي دار سكّ النقود؛ فقد يكون فيها من الزيف ما لا يظهر، وعلى محاربة الاحتكار وتقدير الأسعار والإلزام بها، ثم محاربة الغلاء والغش في الثمن وفي المثمَّن وفي أنواع المكاييل والموازين والمقاييس والأقفزة والأمداد، وفيما يتعلق بمطل دين مستحقّ مع الإيسار، وهذه الرقابة نفسها تُطبق أيضا في الصناعة، فيتوجّه نظر المحتسب إلى حصر المهنيين في أهل مهنتهم، وإلى متابعة غشّهم، وإلى فرض اتباع المناهج المعيّنة دفعا لما يُخشى من ارتجال يؤدي إلى التزييف فالضياع، سواء بالنسبة إلى الصناعة أو للمتجرين أو العاملين فيها أو لمَن يستهلكون منتجاتها[8].

 

ولدينا في الوقائع التاريخية أخبار لا تُحصى لسلطة المحتسب التي كانت أوسع بكثير من مجال الأسواق والصناعات والتجار والحرفيين إلى كل ما يُشكِّل تهديدا وخرقا للمدينة وحقوق الناس والبيئة، فقد أمر الخليفة العباسي المقتدي بالله (ت 487هـ) محتسب بغداد “في الحريم بنفي المفسِدات، وبيع دورهن، فشهَّر جماعة منهن على الحمير مُناديات على أنفسهن، وأبعدهن إلى الجانب الغربي، ومَنع الناس من دخول الحمّامات [العامة] بلا مآزر، ومنع اللعب بالطيور لأجل الاطلاع على سُطوح الناس، ومنع الحمَّاميين من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزمهم أن يحفروا لها آبارا تجتمع المياه فيها، وصار مَن يغسِل السمك والمالح يعبر إلى النجمي فيغسل هناك، ومنعَ الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين”.

ونلاحظ في هذا النصّ التاريخي المهم الذي ينقله المؤرخ والعلامة وفقيه بغداد ابن الجوزي (ت 597هـ) في تاريخه “المنتظم” أن اختصاصات المحتسب كانت الإشراف على الأخلاق العامة بإغلاق بيوت الخواطئ من النساء ونفيهنّ بعيدا عن بغداد، وكذلك ضرورة احترام الآداب والأخلاق في الحمّامات العامة التي كان يقصدها الناس للاستحمام والحجامة، بل ورأينا رقابة صارمة لحماية نهر دجلة من التلوث بمنع ماء الحمامات من أن يُلقى فيه أو بغسل السمك ورمي فضلاته فيه، وتخصيص أماكن أخرى لمثل هذه الأمور.

 

تلك بعض من خفايا الزوايا في تاريخ الحضارة الإسلامية التي سعت عبر منظومة دينية وقيمية وحضارية ووظيفية إلى الارتقاء بحياة الناس اليومية، فحرصت على أن يتناولوا الطيّب من الطعام، وألّا يتعرضوا للغش أو الخديعة، وأن ينعموا بالأمان الأخلاقي والنفسي الذي يحفظ عليهم دينهم وقيمهم وأبدانهم من الضرر والإيذاء.

__________________________________________________

المصادر

  1. صحيح البخاري، ح 2165.
  2. الحسبة المذهبية في بلاد المغرب العربي ص20، 21.
  3. محمد علي فركوش: في حكم تلقي السلع، الموقع الرسمي.
  4. سالم الخلف: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس 2/844.
  5. سهام مصطفى: الحسبة في مصر الإسلامية ص67- 69.
  6. الطبري: تاريخ الرسل والملوك 11/216.
  7. عبد الرحمن الشيزري: نهاية الرتبة ص22.
  8. عبد الرحمن الفاسي: خطة الحسبة ص29، 30

© 2014 Powered By imad-mojahid

FrenchMorocco
الصعود لأعلى